للإنصاف كان الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، واضحاً وشفافاً وصادقاً في وصف واقع الحال في قطاع غزة، المحاصر من قبل إسرائيل منذ عشر سنوات، ولم يتردد في تحميل إسرائيل مسؤولية معاناة ما يقارب مليوني فلسطيني في قطاع غزة، وتدمير كل مقومات الحياة في ثلاث حروب تدميرية شنها الجيش الإسرائيلي على القطاع خلال سنوات الحصار، وتضمنت تصريحات بان كي مون مطالبة بمحاسبة إسرائيل على الحصار والدمار.
لم يشأ بان كي مون أن تكون زيارته الرابعة لقطاع غزة كسابقاتها، لأنها الأخيرة له قبل أن يغادر منصبه كأمين عام للأمم المتحدة، ولعله وجد أن من واجبه الأخلاقي والمهني أن يسجل شهادة تاريخية على معاناة مليوني إنسان، في ظل حصار إسرائيلي مخالف لكل القوانين والأعراف والمواثيق الدولية، عجزت الأمم المتحدة عن القيام بتحرك جماعي لوقفه، بسبب الغطاء السياسي الأميركي والأوروبي الغربي الذي تحظى به إسرائيل، وضعف المواقف العربية في مواجهة الحصار الإسرائيلي.
وسيذكر الفلسطينيون في قطاع غزة، والفلسطينيون عموماً، للأمين العام للأمم المتحدة تعبيره عن مشاعر شخصية طيبة تجاه أهل القطاع، وإعجابه بقوة إرادتهم من أجل مواصلة الحياة وإعادة البناء، رغم كل الحروب والمآسي التي واجهوها وما زالوا يواجهونها. وما قاله يصلح كمقدمة مختصرة لكتاب بقلم شاهد على الفظائع التي أصابت أهل غزة، لكنها زادتهم إصراراً على الحياة، يقول بان كي مون في هذا الصدد: "الفلسطينيون في غزة لهم مكانة كبيرة في قلبي. زرت غزة أربع مرات في السنوات العشر التي عملت فيها أميناً عاماً للأمم المتحدة، وشاهدت شخصياً آثار الحرب المدمرة، وأنا معجب جداً بقدرة الفلسطينيين على مقاومة آثارها، وقاموا بعملية البناء على رغم كل العقبات التي واجهتهم في هذه الحروب..".
مشاعر لا شك في أنها نبيلة، وستترك انطباعاً طيباً في ذاكرة الفلسطينيين، رغم أن بان كي مون خذلهم في غيرة مرة برضوخه للضغوط الأميركية والإسرائيلية بشأن تقارير لجان التحقيق الدولية، وتقارير الأمم المتحدة حول الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك بخصوص آلية إيصال المساعدات إلى قطاع غزة. بيّْد أن تصريحات بان كي مون لا تعدو كونها شهادة شخصية أراد أن يسجلها في صفحات التاريخ، وفي جانب منها اعتذار عن مواقف صدرت عنه، أو امتنع أو تراجع عنها، بفعل الضغوط التي مورست عليه، إلا أنه يبقى الأهم كيف يمكن أن تكون لما قاله بان كي مون آثار إيجابية تخفف من معاناة الفلسطينيين.
للأسف لا يمكن بناء آمال كبيرة على ما قاله الأمين العام في زيارته الرابعة والأخيرة لقطاع غزة، فهو شخصياً اكتفى بطرح تساؤل ليست لديه إجابة عليه، لذلك اكتفى بالقول: "هل نستطيع بناء الحياة، هل نستطيع إعادة هؤلاء الذين عانوا مرارة الحروب، هل نستطيع أن نعالج كل ما كان خلف هذه المرارة من معاناة، هل نستطيع أن نؤكد وجود المحاسبة، وأن يكون هناك محاسبة ضد من قاموا بعمليات في غير العدالة، هل نستطيع أن نخلق فرص عمل وجزءا من الحياة حتى يكون استقرار؟".
كنا نتمنى أن يكشف بان كي مون من موقعه عن القوى التي توفر المظلة السياسية لإسرائيل كي تواصل حصارها لقطاع غزة، ولا نريد هنا أن يعيد الأمين العام للأمم المتحدة إعادة اكتشاف المكتشف، فلا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة وبعض البلدان الأوروبية الغربية هي من يوفر الدعم لإسرائيل، لكن شهادة بان كي مون لا تكتمل دون أن يحدد بالأسماء تلك الجهات، لأنها شريكة في الحصار الذي يشكل جريمة عقاب جماعي، وشريكة في جرائم الحرب ضد الفلسطينيين.
(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)