سبوتنيك: الإعلامية فرقد ملكو كيف كانت خطواتك الأولى برفقة قوات تحرير الموصل من تنظيم "داعش" الإرهابي؟
أنا الإعلامية الوحيدة التي دخلت مع التحرير وشاهدت الموصل ولحظات عودة الحياة للمناطق المحررة، وعلى مدار ثلاثين عاما في الإعلام العراقي كانت الموصل بمثابة الروح من الجسد بالنسبة لي، والآن قررت خوض الانتخابات البرلمانية عن محافظة نينوى، لخدمة أهالي دائرتي.
سبوتنيك: ما هي المشاهد التي لفتت انتباهك أثناء دخولك إلى الموصل برفقة قوات التحرير؟
دخلت مع القوات بعد أن تم تحرير منطقة سهل نينوى، وأنا موصلية المنشأ، بعد التحرير دخلت إلى مدينة "قصبة باطنايا" وهي عبارة عن مدينة فوق أنفاق، وبالتوالي بدأت أدخل إلى كل منطقة يتم تحريرها، إلى أن وصلت إلى الساحل الأيسر بالموصل قبل أن يكتمل تحريره، وكنت قد فارقت المكان منذ عام 2005، ولكنني كنت أتذكر كل شارع وكل زقاق في الساحل الأيسر بحكم عملي الإعلامي لسنوات طويلة في المحافظة، لكن بعد "داعش" ومن كثرة الدمار والخراب وجدت نفسي أسأل المتواجدين عن الأماكن التي أمر بها فقد تغيرت ملامح المدينة بالكامل وكل هذا في الجانب الأيسر.
سبوتنيك: ما سبق كان في الجانب الأيسر… فماذا عن الجانب الأيمن التاريخي؟
كانت صدمتي الأكبر في الجانب الأيمن من الموصل، والتي لم أتوقعها ولا يتوقعها أحد، والصدمة كانت شديدة لأنني ابنة الجانب الأيمن، رأيت مدينة مدمرة بالكامل ولو عشت أصف بشاعة المنظر لن أستطيع وصف ما جرى للمدينة التاريخية، فقد رأيت مدينة مدمرة تحولت إلى حطام وجثث متعفنة تحت الأنقاض، مدينة خاوية ليس بها سوى روائح الموت بعد أن هجرها سكانها للمخيمات، فقد كانت المدينة في السابق عبارة عن أزقة جميلة نظيفة تحمل روح المحبة بين أطيافها، وبدا واضحا لي أن الهدف الرئيس لكل الأطراف كان تدمير الموصل وتاريخها وبشكل خاص الجانب الأيمن الذي نعتز به ونعتبره أجمل ما في المدينة، فتم تدمير مجموعة القناطر الأثرية التي كانت موجودة بالأزقة، تم تدمير البيوت الجميلة المتلاصقة بالأزقة والتي كانت تتعايش كأنها أسرة واحدة وبيت واحد به كل الطوائف والأديان، الكنيسة والمسجد الفقير والغني، ليكون الجميع لوحة فنية للتعايش المجتمعي، ويمكن وصف ما حدث بالجانب الأيمن بكلمة واحدة وهي "زلزال كبير".
سبوتنيك: هل التقيت بـ"داعش" وجها لوجة أثناء دخولك إلى المناطق المحررة؟
لم ألتق "داعش" وجها لوجه على الإطلاق، لكنني رأيت جثثهم وسمعت أصواتهم في منطقة باطنايا عندما ذهبنا مع قوات البشمركة وقادونا لمنطقة باطنايا، كنا نسمع أصواتهم ينادون على ألويتهم في منطقة "تلكيف"، وهي منطقة قريبة من باطنايا وتلسقف، وربما شعروا أن هناك إعلاميين في توقيت وصولنا فقاموا بقصفنا بمدافع الهاون على إحداثيات متعددة، لكننا لم نكن نشعر بالخوف لأن قلبنا "مات" كما يقولون من كثرة أصوات المدافع والصواريخ، فقد رأيت جثثهم لكنني لم ألتق بهم ولا يمكن أن ألتق بهم.
تعايشت مع الكثير من المآسي وليست القصص وبشكل خاص في أول أيام التحرير والنزوح للمخيمات، وبعدها إلى المستشفيات بعد القصف العشوائي لـ"داعش"، وأول لحظة لي دخلت إلى مخيم "الخازر" مع بدايات نزوح العائلات، ولم أجد احتياطات لعمليات النزوح واستقبال المهجرين بهذا الكم الكبير من البشر، وكانت هناك الكثير من المواقف وكنت استقبل العوائل كابنة من أبناء الموصل.
سبوتنيك: أغرب المشاهد التي تتذكرينها في المخيمات؟
أغرب ما شاهدت في المخيمات تذمر النازحين من سوء الأوضاع المعيشية، وعدم توافر أبسط مقومات الحياة من الماء والخبز والنفط، والمعروف أن أهل الموصل كرماء وبيوتهم مفتوحة ولديهم عزة وكرامة وسخاء عيش وليسوا معتادين أن يروا حرب بهذه الصورة، فتحدث معي أحد النازحين بحرقة شديدة عن قلة حيلته في أن يجد قطعة خبز لأبنه الصغير ذو الثلاث سنوات والذي يتضور جوعا، ورأيت الدموع في عين الرجل وفي أعين الكثيرين، في تلك اللحظة تذكرت العراق وتاريخ العراق وعظمة العراق، وعندما عدت للوراء وتذكرت هذا التاريخ العظيم لهذا البلد بكيت بكاء شديدا، لم أصدق أن وصل بنا الحال أن يبكي طفل من الموصل لأنه لا يجد قطعة خبز.
سبوتنيك: ما هي حكاية الطفلة "إيمان"؟
التقيت بالطفلة "إيمان" التي يبلغ عمرها ست سنوات تقريبا في المستشفى، فقد استشهد كل إخوتها الأطفال ووالدتها ووالدها وأصيبت هي بعدة جروح، تم البحث عن أقارب لها فلم يجدوا سوى عمتها لأبيها، وهي التي كانت ترافقها للمستشفى، كنت أواسيها وهي تبكي من الألم، وسألتها إلى من تريد أن تذهب، فأخذت تذكر لي أسماء عائلتها وهي تبكي أخواتها وأمها وأبيها وجدتها، وهي لا تعلم مصيرهم، وهو ما جعلني أنهار أمامها ولا أستطيع إكمال النقاش معها والذي كنت أقصد به تهدئتها، احتضنتها وأخذت في البكاء.
سبوتنيك: هل هناك مواقف أخرى؟
نعم التقيت قبل فترة بسيدة شابة وقع صاروخ على منزلها وبترت ساقيها وهي أم لسته أطفال، وشقيقتها قتلت في نفس المنزل وتركت لها طفلين آخرين وابنة أختها قتلت أيضا وزوجها لحق به خلل عقلي من هول ما شاهد، والآن هي ترعى ثمانية أطفال وتعيش بلا راتب ولا إعانة اجتماعية من الحكومة وبيتها تهدم، فالعراق ضاع وترك لنا "المصيبة الأكبر" وهي الحكومة، ومن كثرة القصص بالمستشفيات والمخيمات أصبت بشىء في معدتي وظللت شهرين أراجع الأطباء وهم يقولون إنني سليمة ولكنني كنت أشعر بالمرض نتيجة الضغط النفسي لما كنت أراه من معاناة النساء والأطفال والرجال ممن لا ذنب لهم.
سبوتنيك: الجانب الأيمن المهدم كما ذكرت… هل يصلح للعيش؟
ما زالت جثث الأطفال بأعداد كبيرة تحت الأنقاض، وكذلك العوائل الكبيرة التي كانت تقصف وهي في بيت واحد، نظرا لأن الأسر الكبيرة كانت تتجمع وقت القصف في منزل واحد وبالعشرات، كان يتم قصف المنازل وتسويتها بالأرض وتظل الجثث تحت الأنقاض، ومن الأرقام التي وصلتني قصف بيت به 33 فردا وآخر 54 فردا كلهم تحت الأنقاض، ومن الصعب على الإنسان أن يتحمل مثل تلك المواقف.
سبوتنيك: تحرير الموصل استغرق وقت كبير… ما السبب؟
أول يوم لوصول عناصر "داعش" إلى الموصل واحتلال المدينة ثم اتجاهه إلى سهل نينوى، في وقتها خرج الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ليقول أن تحرير الموصل من "داعش" يحتاج إلى ثلاث سنوات، وهذا يدل على أنه كان هناك مخطط من البداية لتدمير الموصل وتاريخها وتكميم كل الأفواه التي كانت تحاول توضيح الحقائق وتشويهها واتهامها بالإرهاب، وهو الأمر البعيد كل البعد عن الموصل وأهلها فهي مدينة الثقافة والعلوم والتاريخ وقامت على أرضها أقدم الحضارات "الحضارة الآشورية"، فكيف يدمرها ويحرقها أبناؤها، هناك ناس خارجين عن القانون كما هو الحال في كل مكان ولكن ليسوا إرهابيين.
سبوتنيك: هل تقصدين أن هناك تواطؤ مقصود بين جهات محلية ودولية ضد الموصل؟
نعم كان الهدف تدمير الموصل سواء من "داعش" أو عندما جاءوا بحجة التحرير، فكان يمكن أن تتحرر الموصل بعدة طرق حتى لا يتم تدمير المدينة، فكان بالإمكان فتح قنوات بالجانب الأيمن لهروب "داعش" من الحرب، وحتى لا يتعرض السكان لما تعرضوا له، لكنهم أغلقوا كل المنافذ أمام عناصر التنظيم حتى تكون هناك ذرائع لتدمير الجانب الأيمن وطمس هويته بالكامل، وهناك مثال واضح في منطقة "تلعفر" التي فتحوا بها منفذ لتهريب "داعش" ولم تتأذى المنطقة على الإطلاق، لكن الموصل تم بيعها وتسليمها قبل التحرير بثلاث سنوات، وكنا نسمع يوميا عن استعدادات للتحرير، وعندما بدأت عمليات التحرير لم نكن مصدقين.
الجيش هرب من المناطق قبل وصول عناصر "داعش" وتركوا أسلحتهم وخلعوا زيهم العسكري وارتدوا الزي المدني، فلو أن الجيش العراقي السابق هو الموجود لم يكن ليهرب من المعركة، بل كان سينهي الأمر في أيام وربما ساعات، لم يهرب الجيش العراقي من أمام "داعش" من تلقاء نفسه ولكن وصلت أوامر من الذين باعوا المدن، وكانت الضربة الأقوى للموصل لأنهم يعلمون جيدا مدى وطنية أبنائها واعتزازهم بمدينتهم، فهل يعقل أن يهرب جيش نظامي بعدته وعتاده أمام 150 فرد غير نظامي من طلائع "داعش"، وتم تركهم ثلاث سنوات ليتمكنوا من تقوية أنفسهم وأمدوهم بالسلاح، فاللحظة التي هرب فيها الجيش وترك عتاده وخلع زيه العسكري، تلك كانت لحظة تدمير الموصل.
سبوتنيك: ما هو شكل الحياة في الجانب الأيمن من الموصل وهل عاد النازحون؟
لا تزال المخيمات موجودة وإن كانت بعض العائلات قد غادرتها لعدم قدرتها على تحمل المعيشة في المخيمات.
سبوتنيك: هل تم تطهير الجانب الأيمن من جثث الموتى؟
منذ فترة قصيرة كنت أقوم بالتصوير في شارع غازي بالجانب الأيمن، وهو شارع معروف وتم إعادة الحياة به، عندما عبرنا للدخول إلى سوق السماكين لم نستطع تحمل رائحة الجثث، فكتبت وقتها على صفحتي في فيسبوك "يتسابقون من أجل الانتخابات وجثث أهالي الموصل تحت الأنقاض… فأين هو الضمير"، فهناك الكثير من الأزقة تحولت إلى أنقاض وركام.
أجرى الحوار أحمد عبد الوهاب
