مجتمع

السعادة تأتي لمن لا ينتظرها... الخطوة الثالثة نحو "قوة اللحظة"

يرشدنا كتاب "قوة الآن" أو The Power Of Now إلى طريق الوصول إلى الهدف الذي يسعى جميع البشر بلا استثناء إلى بلوغه خلال حياتهم، فمن منا لا يريد الوصول إلى السلام النفسي الكامل، والسمو فوق جميع مشاكل الحياة، وأن يضع قدمه على الطريق الصحيح للعلاقات الاجتماعية والعاطفية.
Sputnik

تحدثنا في الفصلين الأولين من الكتاب عن أكبر العوائق التي تقابل الإنسان في مسعاه لتحقيق حالة الحضور، وطرق التحرر من سيطرة العقل والتفكير الزائد، للوصول إلى مرحلة السمو فوق الأفكار، والتأكيد على حقيقة المشاعر وأنها ما هي إلا ردة فعل الجسد على ما يدور في العقل من أفكار، وتحدثنا عن أهمية عيش اللحظة الحالية فقط بكامل الحواس، وكيف أن ذلك يعد أحد المداخل العظيمة للتخلص من الألم والمعاناة، وأخيرا عن أصل خوف الإنسان وأسبابه الحقيقية.

في الفصل الثالث يأخذنا الكاتب في رحلة إلى معنى السعادة الحقيقية، تلك التي عرّفها بحالة مستدامة غير قائمة على أوهام أو مكاسب أو علاقات، ويواصل تأكيده خلال هذا الفصل على أهمية الحضور والوعي في اللحظة الحالية، وإلقاء ما عرّفه في الفصل السابق بـ"الوقت النفسي" وراء ظهورنا، وكيفية التمييز بين حياة الإنسان وموقفه منها.

تسعى "الأنا" أو الذات المزيفة إلى إلصاق نفسها دائمًا بالأفكار المَرَضية والاحتياجات المسببة لمعاناة الإنسان وألمه، ومع اعتياد الإنسان استخدام منطق الأنا يبدأ في الاقتناع بأن الألم والمعاناة يشكلان هويته، وهو بالطبع معتقد مغلوط وهوية مزيفة ابتعدت عن حقيقة الذات النقية الحرة للإنسان، وما يعزز من الابتعاد عن الذات الحقيقية ارتباط الإنسان بالوقت النفسي، أي القلق بشأن المستقبل والندم عما حدث أو ما كان يجب أن يحدث في الماضي.

قد يرى البعض أن الإحساس بالوقت أمر ضروري لأن ما حدث في الماضي هو ما شكل شخصية الإنسان الحالية وما سيحدث في المستقبل سيحدد مصيره، إلا أن إيكارت تول يرى أن الماضي والمستقبل ليس لهما تلك الأهمية الكبرى التي نمنحها لهما، فالحاضر فقط هو ما له أهمية، وما عدا ذلك وهم، فالحياة كلها هي اللحظة الحالية، فهي وحدها ما يمكنها تحرير الإنسان من سيطرة عقله، فضلا عن أنه لا يوجد "فعل" خارج اللحظة الحالية، فهل صادفت يوما ما شيئا يحدث في المستقبل أو يحدث في الماضي، بالطبع لا فالحقيقة هي أن أي فعل يحدث "الآن"، لذا فاللحظة الحالية هي كل ما نملكه في حياتنا.

ما يدفعنا بعيدًا عن اللحظة الحالية هي الأنا لأنها لا تجد لنفسها تعريفا إلا في الماضي والمستقبل، وتشعر بأن اللحظة الحالية تعتبر أكبر تهديد لوجودها، لذا فإن الوعي بالذات الحقيقية أو الروح هو ما يعيدنا مرة أخرى للحضور في اللحظة الحالية، ذلك لأنها ذات خالدة لا تعترف بالوقت، ولتحقيق حضور الذات الحقيقية ينبغي وضعها في مقعد المراقب على الجسد وما يعتريه من مشاعر وعلى العقل وما يدور به من أفكار.

يمكن تحقيق الحضور بمراقبة حركة التنفس، واستشعار الهواء الداخل والخارج من وإلى الرئتين، والإحساس بالطاقة تنساب إلى كل عضو من أعضاء الجسد، بل واستشعار الحياة التي تنبض داخل كل خلية، ويعد ذلك أحد تقنيات التأمل المستخدمة لجلب الهدوء والسلام الداخلي.

ينبغي التمييز هنا بين الوقت الفيزيائي والوقت النفسي، فالوقت الفيزيائي المحسوب بالساعات والدقائق لا يمكن إغفاله، لأنه يحدد بداية ونهاية أنشطتنا بل أنه يحدد أعمارنا نفسها، لكننا هنا نتحدث عن أهمية تجنب الدخول في دوامة الوقت النفسي، الذي يعني كما ذكرنا سابقًا، الانشغال والقلق بما سيحدث في المستقبل وما حدث في الماضي، وهذا لا يعني ألا نخطط للمستقبل، بل يمكنك وضع الخطط كما تشاء لكن انتبه إلى أن فعل التخطيط ذاته يحدث في اللحظة الحالية، فلا تسمح لعقلك بأن تأخذه الأحلام بعيدا عن "الآن".

تكمن جميع المشاعر السلبية في الضياع داخل دوامة الوقت النفسي، فالانشغال بالمستقبل والماضي تقابلة ردة فعل من قبل الجسد تظهر في أشكال متعددة، مثل عدم الارتياح والغضب والتوتر والقلق والمزاج السيئ، لكن يجب الإشارة هنا إلى أن من لا يقتنع بأن انشغال العقل بالوقت النفسي هو ما يسبب له المعاناة، هو في حقيقة الأمر يخلط بين حياته ووضع حياته، فما الفرق بينهما؟

يؤكد تول استحالة اجتماع شعور الإنسان بالتعاسة والوعي باللحظة الحالية في وقت واحد، لكن ينبغي هنا التمييز بين الشعور بالحياة ووضع الإنسان أو موقفه في الحياة، والفرق بينهما أن الشعور بالحياة يكون من خلال الشعور بمجال الطاقة التي تسير في الجسد في اللحظة الحالية، وهو شعور حقيقي ملموس بعكس المعاناة الناتجة عن الانشغال بموقف الإنسان في الحياة الذي ينسج العقل حوله المشاكل والهموم الماضية والمستقبلية.

للوصول إلى السعادة التي يحققها الاتصال بالروح أو الذات الحقيقية، اسأل نفسك "هل ما تفعله الآن يشعرك بالارتياح والسعاد؟" إن كانت الإجابة بالنفي فهذا لأنك تقاوم اللحظة الحالية، فليس دائما يكون المطلوب منك تغيير ما تفعله، ربما يكون كل ما تحتاجه أن تعطي أهمية أكثر لما تفعله أن توجّه انتباهك وانشغالك بالفعل وليس بالنتيجة التي تنتظرها، ستشعر وقتها بمتعة ما تفعله لأنه لا يمكنك أن تعطي كل انتباهك لشيء ما وفي نفس الوقت تقاومه وترفضه.

لا تنتظر نهاية دوام عملك، لا تنتظر نهاية الدراسة، لا تنتظر حصولك على وظيفة أحلامك، لاتنتظر العطلة الأسبوعية، لا تنتظر شخص يعيد إليك البسمة والاطمئنان، بل اشغل نفسك في "اللحظة الحالية" بصب اهتمامك وانتباهك بالكامل على ما تفعله، افعل كل ما يوصلك إلى أهدافك فلا مانع مطلقا من السعي نحو أهداف مستقبلية، لكن اسع لها بفعلك "الآن" وليس بذلك الانتظار الملول المقاوم والرافض للواقع.

في الفصل الرابع، يستكمل إيكارت تول حديثه إلينا حول التحرر من التعاسة وفقا لمنظوره، كما يطلعنا على الفارق بين حالة اللاوعي الاعتيادية واللاوعي العميق وكيفية التخلص منها، وسيمتعنا بالحديث عن الهدف الرئيسي والحقيقي من رحلة الحياة.

مناقشة