الأديب أحمد أبو سليم يكشف لـ"سبوتنيك" كيف أثرت كورونا على الأدب والحياة

أزمة كورونا التي حكمت العالم وستغير ملامحه، حتماً سيكون لها أثر واضح على الحياة بشكل عام، وعلى الأدب بشكل خاص.
Sputnik

وكالة "سبوتنيك" التقت الأديب الأردني – الفلسطيني أحمد أبو سليم، للحديث معه حول أثر أزمة كورونا على الأدب والحياة، وعن علاقة الفلسفة والعلوم مع الأدب.

كما كان هنالك متسع للحديث عن حياة الأديب أبو سليم التي قضى شطراً منها في العاصمة الروسية موسكو أثناء دراسته للهندسة في جامعة "الصداقة"... إلى نص الحوار.

الكتابة في زمن كورونا... الأدب والأوبئة بين التأثير والتأثر

هل يمكن أن تحدثنا عن طبيعة دراستك واهتماماتك؟

أنا أحمد أبو سليم، شاعر وروائي، حاصل على ماجستير في الهندسة الميكانيكية من جامعة الصداقة بين الشعوب، موسكو، عام 1992، متشعِّب الاهتمامات، وقد يكون الاختصار المفيد لكلِّ اهتماماتي هو "شبق المعرفة" أَو ربَّما تجريب الحياة، لهذا وجدت نفسي مندفعاً منذ البدايات إلى مناح متعدِّدة، القراءة بكل أَشكالها مع ميل واضح نحو الفلسفة وعلم النَّفس، بالإضافة إلى الشعر والأَدب، ولع بالموسيقى، والرَّسم، وانحياز لفلسطين.

هذا ما دفعني لممارسة العمل السِّياسي أَيضاً في مرحلة ما من مراحل حياتي، حيث كان السِّياسيُّ طاغياً على الحياة، وأَعني السِّياسيَّ الثَّوريَّ بالذَّات.

وما هي بدايات مسيرتك الفنية وأبرز أعمالك والجوائز؟

الفقر كان عنوان المراحل الَّتي عشتها، وكان يشكِّل حاجزاً حقيقيَّاً بين طموحي، وإمكانيَّة تحقيقه، أَو تحقيق جزء منه، لذا سأَنتهز فرصة هذا اللِّقاء لأُعبِّر عن شكري العميق لجهتين: الأُولى هي الجبهة الشَّعبيَّة لتحرير فلسطين الَّتي انتميت إليها ذات يوم، وعلَّمني هذا الانتماء الكثير، وذلَّل أَمامي صعاباً ما كان يمكن لي أَن أَتجاوزها وحدي، والثَّانية هي الاتِّحاد السُّوفييتي حيث درستُ، وجامعتي جامعة الصَّداقة بين الشُّعوب، وموسكو، الَّتي لولاها ما كان يمكن لي أَن أُكمل دراستي الجامعيَّة، وأُصبح مهندساً.

في موسكو بدت الحياة سهلة للغاية، استطعت أَن أُمارس هواياتي، تعلَّمت العزف على الجيتار، مارست السِّياسة، والكتابة أَحياناً، حيث كانت السِّياسة تبعدني عن الأَدب، وقرأتُ كثيراً، وكانت فيها بداية انطلاقي في الحياة، كانت المنح الَّتي يوفِّرها الاتِّحاد السُّوفييتي والمنظومة الاشتراكيَّة آنذاك للطلَّاب الفقراء، الوسيلة الوحيدة الَّتي تمكنُّهم من ممارسة الحياة كما يشتهون....إذ لم تعد الإشكاليَّات الماديَّة عائقاً أَمام ذلك.

تميزت أعمالك الروائية بأنه فيها محاولة للحفر في بعض الظواهر السياسية والاجتماعية عبر أدوات الهندسة وأحيانا الفيزياء هل تحدثنا عن أعمالك السابقة؟

كنتُ قد أَعددتُ مجموعة قصصيَّة للنَّشر عام 1993م أي بعد تخرُّجي من الجامعة مباشرة، ولم تسمح الظُّروف بنشرها، وبقيتُ أُراسل بعض الصُّحف بين الحين والآخر وأَنشر فيها، وأَجريت عدَّة محاولات لكتابة روايات معظمها لم يكتمل، وشاء القدر أَن تكون أَولى أَعمالي المنشورة ديوان شعر "دم غريب" ثمَّ تتالت الأَعمال الشِّعريَّة:

مذكرات فارس في زمن السُّقوط، والبوم على بقايا سدوم، وآنست داراً، وبعد ذلك رواية الحاسَّة صفر، ثمَّ رواية ذئاب منويَّة، ثمَّ رواية كوانتوم، ثمَّ ديوان شعر بعنوان ضدَّ قلبك، ثمَّ أَخيراً رواية بروميثانا الَّتي سخَّرتُ تجربتي مع موسكو في جزء منها...هذا عدا طبعاً عن بعض الأَعمال المشتركة مع آخرين.

دائماً ما كنتُ أَنظر للأَدب عبر عين الفلسفة، فالأَدب ليس قيمة فنيَّة فحسب بنظري، وينعكس ذلك على الفنون جميعها بالضَّرورة، إذ يتوجَّب على العمل الفنيِّ أَن يحمل قيمة إنسانيَّة رفيعة من أَجل أَن يؤدِّي مهمَّته الإنسانيَّة وإلاَّ فقد معناه لحظة تلقِّيه، وانتهى، وقد يشبه ذلك إلى حدٍّ ما الفرق بين عود الثِّقاب الَّذي يشتعل لحظة ويحترق وينطفئ، والشَّمعة أَو المصباح الَّذي ينير لنا الدَّرب ويكون موجوداً لحظة حاجتنا إليه.

ثمَّة فرق مثلاً بين الكوميديا والتَّهريج، وكذلك بين الموسيقى الَّتي اصطلح على تسميتها(خفيفة) والموسيقى المركَّبة، والشِّعر العادي الخفيف أَيضاً، والشِّعر العميق، والرِّواية والحكاية المسليِّة، كل هذه الأَشياء مجتمعة تشكِّل ما سيسمى الذَّائقة، ومستوى الذَّائقة يعبِّر عن وعي الفرد، وإلى حدٍّ ما الشُّعوب، ومستوى الوعي يعبِّر عن القدرة على التَّعامل مع الواقع، إذا كانت الفكرة المثاليَّة للبشريَّة متمثِّلة أَصلاً بالدِّيانات كتجلٍّ نهائيٍّ للخير والشرِّ، تطرح فكرة الجنَّة والنَّار، وكانت فكرة الجنَّة مرتبطة بالسموِّ الإنسانيِّ، فإنَّ الذَّائقة الفنيَّة هي المسطرة الَّتي يمكن لنا أَن نقيس على أَساسها هذا السموَّ.

الأديب أحمد أبو سليم يكشف لـ"سبوتنيك" كيف أثرت كورونا على الأدب والحياة

هل كنت تريد أن تواكب العصر وأسئلة العصر عبر الأدب؟

ثمَّة بحث دائب لا يتوقَّف منذ أَن وجد البشر أَنفسهم على هذه الأَرض عن معنى الحياة، وشكل الوجود، ودور الإنسان فيها، الخ...من الأَسئلة الوجوديَّة الَّتي وزَّعت العداءات المستشرية بين البشر، وقامت على أَساسها حروب إبادة ومجازر.

حين ادَّعى كلُّ فريق بشريٍّ أَنَّه وحده يمتلك الحقيقة، وقد كانت تلك الأَسئلة في مرحلة ما حكراً على الفلسفة الَّتي أَخذت على عاتقها عبر التَّاريخ البشريِّ محاولات الإجابة على أَسئلة الوجود، وظلَّ هذا الواقع قائماً رغم ظهور بعض المدارس الَّتي بذلت مجهوداً في الخروج عن الإطار العام للفلسفة أَو إخراجها بتعبير أَدقٍّ من سياقها المتعارف عليه، ومحاولة إعادة بنائها على أَساس قوانين صارمة كما فعلت بعض المدارس اليونانيَّة القديمة، كالفيثاغوريَّة، لكنَّ الفلاسفة أَنفسهم اكتشفوا في لحظة تاريخيَّة ما (شأن الأَديان أَيضاً) أَنَّ الفلسفة لن تستطيع أَن تواصل طريقها دون العلم.

كان ذلك مع كوبيرنيكوس، وغاليلو، بداية، ثمَّ توَّج نيوتن بقوانينه عن الطبيعة والكون والزَّمن، والمكان، هذا المفهوم، ومن هنا بدأَت عمليَّة اندماج ما بين الفكرة والقانون، فوجدنا فلاسفة القرن الثَّامن عشر والتَّاسع عشر يعيدون طرح المفاهيم الفلسفيَّة، والأَسئلة الوجوديَّة، والاجتماعيَّة بناء على هذا التطوُّر.

لكنَّ الأَمر لم يتوقَّف عند هذا الحدِّ، بل ذهب إلى انفجار أَبعد وأَعمق مع بدايات القرن العشرين حين وضع أينشتاين قانون النسبيَّة، وجاء بنظريَّاته الجديدة عن الزَّمكان، والكون المقعَّر، والضَّوء، ثمَّ علماء الكوانتوم الَّذي قلب مفاهيم البشريَّة رأساً على عقب.

لم يعد ثمَّة مناص أَمام الفلسفة كي تستمرَّ سوى أَن تستند على كلِّ ما قيل في الرِّياضيَّات، والفيزياء، والكيمياء، لأَنَّ تلك العلوم أَصبحت هي المرجعيَّة الملموسة المثبتة(ولو بشكل مؤقَّت) لأَيِّ فكرة أَو مفهوم.

لقد أُعيد تشكيل الوعي الإنساني خلال القرن الماضي مرَّة أُخرى، وتمخَّض عن ذلك انقلاب ليس على مستوى المفاهيم فحسب، بل على مستوى العلاقات بتجليَّاتها كافَّة، فكان على البشريَّة أَن تعود لتجيب عن أَسئلة الأَديان، والعبوديَّة، والحريَّة، والوطن، والدَّولة، والطَّبقات، والمرأَة، والوعي، والمعرفة، والحروب والصِّراعات، إلخ.

ومن هنا كان دور الفنون بارزاً في محاولة لترسيخ مفهوم أَيَّة فلسفة وخلق ذائقة خاضعة بشكل أَو بآخر لتجليَّات هذه الفلسفة، فتمثَّلت الفلسفات بشكل ملموس مع الأَدب، والموسيقى، والنَّحت، والرَّسم، حيث كانت هذه الفنون تشكِّل الكتاب المقدَّس أَو الكتب المقدَّسة لفلسفة ما، كما فعلت رواية الأُم لغوركي، وعشرة أَيَّام هزَّت العالم، وكيف سقينا الفولاذ، وكما فعلت على الجانب الآخر أَعمال سارتر، وألبير كامو، وآرنست همنغواي، وت س إليوت، وبودلير، ورامبو، وباخ، وبيتهوفن، وموزارت الخ....

لا يمكن فصل الأَدب والفن عموماً عن الفلسفة، وما دامت الفلسفة أَصبحت تستند إلى نظريَّات العلوم، فيجب بنظري أَن يجد الأَدب طريقة للتَّصالح مع القانون، والعلم، والرِّياضيَّات، والفيزياء، وهذا ما أُحاول أَنا فعله، سواء على صعيد الشِّعر، أَو الرِّواية، أَو المقالات النَّقديَّة، وغير النَّقديَّة.

الأديب الألماني غوته "الشخصية المحورية" لمعرض أبوظبي للكتاب

أزمة كورونا والتي يبدو أنها لن تتوقف عند أيام الحجر الحالية، إلى أين ستأخذ الأدب حسب رأيك؟

ثمَّة رابط مقدَّس لم يكتشف بعد، وعلينا البحث عنه، وقد تكون أَزمة كورونا الحاليَّة محفِّزاً حقيقيَّاً للبحث.

كوفيد-19 أَو كورونا، واقع جديد على هذا العالم برمَّته، قلب البشريَّة رأساً على عقب، وغيَّر ليس نمط الحياة فقط، وإنَّما نظرتنا إلى أَنفسنا وإلى الكون.

أحيانا الأدب لا يكتفي بالاشتباك مع الأحداث بل يسبقها هل مررت برواية ما تنبأت بما يحصل اليوم؟

ثمَّة ثلاثة سياقات للأَدب:

أَن يستشرف، أَو يصف، أَو يستخلص العبر من الماضي، وعظمة أَيِّ أَدب تكمن في قدرته على جمع هذه السِّياقات معاً ضمن قالب فنيٍّ عبقريٍّ، لقد رأَينا كيف عادت رواية أَحدب نوتردام إلى الحياة مع حريق كاتدرائيَّة نوتردام دو باري، ربَّما كانت تلك مصادفة فقط، وربَّما أَعاد التَّاريخ نفسه بحريق جديد.

لكنَّ العودة إلى الطَّاعون لأَلبير كامو في زمن الكورونا، والعمى لسارامغو، هو بحث في الماضي عن المستقبل، ومحاولة تشخيصه، أَي محاولة بشكل ما لاستقاء الطمأنينة أَو العكس من عمل أَدبيٍّ جادٍّ حاول أَن يعرِّي الحالة البشريَّة لحظة الطُّوفان.

سنجد مئات وربَّما آلاف الأَعمال الأَدبيَّة والفنيَّة الَّتي تحاول أَن تتَّكئ على حالة كورونا كمادة خصبة جدَّاً قابلة للتطويع والتشكيل الفنِّي، لكنَّنا لن نجد إلاَّ القليل من هذه المواد الَّتي بوسعها استيعاب الكورونا كحالة ومفهوم، والتأسيس على ذلك في البحث في الأَعماق من أَجل تحريك الوعي البشري خطوة إلى الأَمام، ومن هنا يأتي دور الفلسفة كما ذكرت في البداية.

هل سيكون دور الأَديب هو التقاط حالة؟ مشهد؟ وبناء العمل الفنِّي عليه؟ هل سيكون العمل الفنِّي أَكثر قيمة من مشهد أَو صورة عرضت عبر الشَّاشات، وأَكثر تأثيراً؟ صورة واحدة أَحياناً تغني عن قراءة مجلَّدات من الكتب، إن كانت هذه الكتب تحاول اللَّحاق بهذه الصُّورة، حيث يكمن الخلل-بنظري- في الدَّور المنوط بالصُّورة، والدَّور المنوط بالعمل الأَدبيِّ، أَو الفنيِّ، ستفشل هذه الأَعمال في أَداء دورها.

هنا يأتي دور الفلسفة، رؤية ما لا يُرى، تشكيل الانزياحات الممكنة، إشعال الخيال، دراسة الاحتمالات، اجتراح الأَسئلة، الخوض في العمق، أَليست كورونا صراع وجود؟ صراع أُمم؟ صراع الإنسان مع بيئته ومحيطه وصولاً إلى نفسه؟ أَليست تناقض الفرد مع المجموع؟ والمواطن مع الدَّولة؟ والإنسان مع الإنسان؟ والشَّخص مع نفسه؟ أَلم يفسِّرها بعض المؤمنين بأَنَّها غضب من الله؟ وفسَّرها آخرون بأَنَّها مؤامرة كونيَّة رأسماليَّة قذرة؟ وفسَّرها آخرون بأَنَّها حرب الشَّيطان؟ أَليست الكورونا تعبير مطلق عن الهشاشة البشريَّة؟ أَليست تعرية للمنظومة الأَخلاقيَّة؟ كورونا أَكثر من ذلك بكثير، ولكي نستطيع أَن نلمَّ بتفاصيلها علينا أَن ننظر إليها من الدَّاخل، وتلك مهمَّة لا يتقنها الكثيرون.

باعتقادك هل هناك دور للأدب في أزمة كورونا؟ وما هو هذا الدور؟

ثمَّة من سمعتُ بأَنَّه قام بإنجاز رواية عن كورونا خلال أَقلَّ من شهرين، حتَّى قبل أَن يتجلَّى المفهوم، ذلك الأَمر يدعو للضَّحك طبعاً، وهو يعبِّر عن سذاجة تناول الأَدب، ودوره، كيف يمكن تناول تجربة غير مكتملة بعد؟ وإعادة طرحها؟ وما الَّذي نعرفه عنها حتَّى ندَّعي أَنَّنا هضمناها ونعيد طرحها من خلال الأَدب بقالب أَدبيٍّ فلسفيٍّ يليق بالتَّجربة؟

أَعتقد أَنَّنا بحاجة إلى التأنِّي في الكتابة، فبقدر عظمة التَّجربة يمكن إنجاز أَدب عظيم يليق بالبشريَّة الجديدة بعد كورونا.

أزمة كورونا إلى أين ستأخذ أحمد أبو سليم؟

أَزمة كورونا وضعت أَحمد أَبو سليم وجهاً لوجه أَمام نفسه.

لقد تجلَّت الأَزمة في عدَّة مناح: المرض نفسه، نظريَّة المؤامرة، الحجر في بعض الدُّول ورفضه في دول أُخرى، هشاشة الإنسان وهشاشة الدُّول، تغوُّل رأس المال، انفلات بعض البشر في بعض المجتمعات، سلطة الإعلام، إلخ...

ربَّما كان الحجر هو ما طالني من هذه الأَشياء بشكل مباشر، حيث وجدتُ نفسي مجبراً على التزام بيتي شأن المجتمع كاملاً، ما أَعطاني فرصة لإعادة النَّظر في الكثير من الممارسات اليوميَّة الَّتي تسرقنا من أَنفسنا دون أَن ندري.

لقد قرَّرتُ في لحظة ما الخروج من تأثير هاجس كورونا، وأَن أَعيش حياتي(رغم الحجر) خارج هذا التأثير، فأَصبح الحجر بالنسبة لي حالة من التأمُّل، هناك الكثير من الوقت، هناك وقت كاف لممارسة جميع الأَشياء الَّتي نرغب بممارستها، كالقراءة، والكتابة، والتَّفكير، والبحث، والعزف، والتعرف إلى الذات، والرُّجوع إلى الذِّكريات، لكنَّنا شأن الدُّول أَيضاً نقف عاجزين أَمام الخلل الحاصل في التَّوازن بين ما نرغب به، ونريد أَن نمارسه بشدَّة، وبين الواقع الاقتصادي، حيث يصبح التَّفكير في الغد كابوساً لأَننا ندرك أَنَّنا ذاهبون إلى الجوع.

كورونا مجرَّد محطَّة مهمَّة ستظهر مراراً وتكراراً في أَعمالي، وكتاباتي، لا شكَّ في هذا، لكنَّها لن تظهر إلاَّ كمحرِّك ودافع ليس أَكثر باعتقادي.

مناقشة