مجتمع

"صانع الزمبيل"... لا شيء تستحقه القمامة

في السوق الشعبي الذي يحاذي منطقة (دوار الحديد) في مدينة حلب القديمة، عادت أصوات المطارق في ورشة "محمود سراج"، لتملأ هواء السوق الذي ما زالت علائم الإرهاق بادية على جدرانه جراء سنوات سيطرة "جبهة النصرة" على الأحياء الشرقية للمدينة، قبل تطهيرها.
Sputnik

عادة ما تجد الأشياء القديمة طريقها إلى حياتنا، كلما اشتدت صعوبة الوصول إلى بدائلها الجديدة.

على هذا المنوال، تتقلص لائحة الأشياء التي تجد طريقها إلى القمامة، وعلى هذه الخلفية عاد "محمود سراج" إلى ورشته في (باب الحديد)، في ظل حصار اقتصادي خانق دفع أمامه تراجعا حادا في مقدرة السوريين على ابتياع احتياجاتهم، وباتت مهن كانت قد اندثرت سابقا، مرشحة اليوم للعودة إلى قائمة ضرورياتهم كبدائل يمكن الاعتماد على منتجاتها للتغلب على ما يقاسونه من ظروف استثنائية في صعوبتها.

"صانع الزمبيل"... لا شيء تستحقه القمامة

ليست الحرب الطويلة المتهم الوحيد بانقراض (صانع الزمبيل) التي يمتهنها سراج، فللمفارقة، هنالك أيضا سنوات (الرخاء) التي سبقتها حين أخلت منتجات هذه الصنعة مواقعها في رفوف المتاجر، لصالح أخرى أكثر حداثة، بعدما أضحى زبائنها وجلهم من أهالي الريف الحلبي، أكثر تطلبا لمنتجات المصانع الكبيرة والمستوردة، ذات الأثمان الباهظة نسبيا بطبيعة الحال.

مع انتعاش الطلب على منتجاته هذه الأيام، ينكب سراج الذي يعمل (صانع زمبيل)، على عمله لساعات طويلة تتخللها استراحات قصيرة لالتقاط أنفاسه من الجهد العضلي المضني الذي تتطلبه.

"صانع الزمبيل"... لا شيء تستحقه القمامة

وخلال تلك الساعات الطويلة، نادرا ما ترى يدي الحرفي سراج الذي يلقبه أقرانه في السوق بـ "أبي محمود"، فارغتين من مطرقة أو أداة حادة يشق بها دون هوادة عجلات ضخمة من ذوات الأوزان الثقيلة.

أثناء تنقله بين عجلة يجرها إلى حيث سيقوم (بسلخها)، وبين أخرى يسدي عماله نصيحة ما لجعل تفكيكها أكثر جودة وتناسبية لصنع منتجاته، يجد سراج وقتا متقطعا ليروي لـ"سبوتنيك" قصته مع الحرفة التي دبت فيها الحياة بعد اندثارها إبان انكفاء الناس عن اقتناء منتجاته المصنوعة من (الكاوتشوك) المعاد تدويره من عجلات السيارات.

"صانع الزمبيل"... لا شيء تستحقه القمامة

يتحدث أبو محمود بحسرة بادية عن عودة انتعاش "صنعة الزمبيل"، نظرا لما يكتنف ذلك من مفارقة، فهذه المهنة التي واجهت تحديات الاندثار إبان انتعاش الاقتصاد السوري وازدياد الدخول بشكل كبير خلال العقد الأول من القرن الحالي، جاء الحصار الاقتصادي والحرب والفقر، ليعيدوا إحيائها!.

ورشة (صانع الزمبيل) التي اشتهرت فيها المدن الصغيرة والأسواق الشعبية، لطالما كانت تدر أرباحا كبيرة نسبيا نظرا لما تتطلبه من جهد استثنائي مضن في إنتاج (قادوس الجب "الدلو") الذي كان يستخدم لنضح الماء من البئر في الأرياف، و(الزمبيل "القفّة") لنقل التراب والرمل.

"صانع الزمبيل"... لا شيء تستحقه القمامة

يقول أبو محمود لـ"سبوتنيك": "هذه الحرفة بالذات لا يصبر أحدٌ على تعلمها إلا من ترعرع بها منذ نعومة أظفاره، إذ لا يقوى عليها الكثيرون لما تطلبه من قوة وجسارة بالتعامل مع تلك العجلات"، مضيفا: "أصنع من العجلات  التالفة ما بين 10 إلى 12 (قادوس) و(زمبيل) يومياً.. حاليا، مازال الطلب ضعيفاً على المنتجات، لكنها أحد الخيارات الأساسية لعمال البناء نظرا لما تتميز به من متانة وتحمل، وهذه الأيام نسعى إلى تصنيع قطع تبديل من كاوتشوك العجلات لاستخدامها كبديل لمخمدات المولدات الكهربائية الكبيرة، بديلا لاستيرادها".

ناشطون حلبيون ينشئون "مصنع أكسجين" لدعم العلاج المنزلي لمصابي كورونا... فيديو وصور
يشعر المرء بالدهشة وهو يراقب أبو محمود وعماله وهم يقارعون عجلات مهترئة يشقون جوفها بمشارطهم الحادة، الحاج مصطفى خربوطلي، وهو ثمانيني يقطن في منطقة (باب الحديد)، قال لـ سبوتنيك: "منذ صغري، أذكر الأستيكي (وهو إسم  آخر لمهنة صانع الزمبيل)، كنت أتساءل كيف يقوى على هذا العمل الشاق، يفصل قشرة الدولاب الخارجي ويستخلص من قشرتها الداخلية قطع المطاط، قبل تطويعها وإعادة صناعتها".

ويتابع خربطلي: "لابد من تشجيع هذه الحرف التي تعتمد على إعادة التدوير للعمل من جديد، لما تقدمه من خدمة للمجتمع وفائدة للصناعة على حد سواء حيث تنتج كل من (الزمبيل) و(الراوية)، وهذه الأخيرة تشبه خزان ماء الذي يتم نقله على ظهور الدواب من الواحات في البادية السورية، ومن الينابيع إلى المنازل في المناطق الجبلية.

مناقشة