بعد تورط قضاة في ملفات فساد وإرهاب ومحسوبية... دعوات لإصلاح القضاء التونسي

تصاعدت الدعوات في تونس خلال الآونة الأخيرة، لإصلاح المنظومة القضائية وتحصينها من التدخلات السياسية بعد تواتر الإخلالات والتجاوزات في هذا السلك وضلوع قضاة في ملفات تهريب أموال وخدمة أجندات حزبية والتستر على إرهابيين.
Sputnik

وطفت هذه الدعوات إلى السطح بعد حادثة تورط قاضية تونسية في شبكة لتهريب العملة الأجنبية إلى ليبيا، بعد أن ألقي عليها القبض وهي تحمل في سيارتها الخاصة حقيبة بها نصف مليون يورو، قبل أن تتم إحالتها إلى التحقيق ورفع الحصانة عنها وإيقافها عن العمل.

تونس.. "الدستوري الحر" يعيد انتخاب عبير موسي رئيسة له
وأطلق تونسيون ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي هاشتاغ  (على وجه الفضل) تندرا بتبرير القاضية المتهمة فعلتها بأنها قامت بنقل الأموال على وجه الفضل، منددين بقرار النيابة العمومية الذي قضى بتركها في حالة سراح.

بينما علّق الرئيس التونسي قيس سعيد على هذه الحادثة بالقول إنه "لا فضل على أحد بوظيفته أو مركزه المالي"، مؤكدا حرصه على ضمان تطبيق القانون على الجميع على قدم المساواة.

وسبق أن أصدر المجلس الأعلى للقضاء في يوليو الماضي قرارا بإيقاف وكيل الجمهورية السابق البشير العكرمي الذي تنسبه أطراف لحركة النهضة بناء على تقرير للتفقدية العامة بوزارة العدل يتضمن اتهامات له بالتستر على قضايا إرهابية وإخفاء أدلة بشأن ملف اغتيال المعارضيْن اليسارييْن شكري بالعيد ومحمد البراهمي.

قضاء معتل يحتاج إلى تطهير

وفي هذا الصدد، قال رئيس لجنة مكافحة الفساد بالبرلمان بدر الدين القمودي لـ "سبوتنيك"، إن الفضائح المتتالية التي يتم الكشف عنها من حين إلى آخر بشأن تورط العديد من القضاة في جرائم متعددة يتم التغاضي عن معظمها خير دليل على أن الجهاز القضائي بات معتلا ويحتاج إلى عملية تطهير واسعة.

وتابع "هذا التوصيف لا ينسحب على جميع القضاة لأن الشرفاء في هذا القطاع كثيرون، ولكن هذه التجاوزات تذكر بأهمية إصلاح المنظومة القضائية وإبعادها عن جميع الضغوط التي تمارس عليها سواء من قبل لوبيات سياسية أو اقتصادية".

وأكد القمودي أن الجهاز القضائي شهد خلال العشرية الأخيرة انتداب قرابة 1000 قاضٍ دون الخضوع إلى الاجراءات المتشددة التي كانت تعتمد سابقا، وهو ما سمح بدخول قضاة قد تنقصهم المعايير اللازمة لضمان الشفافية المعهودة، وفقا لقوله.

وأشار إلى أن القضاء التونسي تأثر كثيرا بالضغوطات السياسية خاصة بعد فترة تولي القيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري وزارة العدل بين سنتيْ 2011 و2013.

وأضاف أن "التدخل في الشأن القضائي كانت له تجليات عديدة، أبرزها الدعم غير المسبوق لوكيل الجمهورية السابق وصهر البحيري "البشير العكرمي" الذي اتصلت به ملفات وتجاوزات خطيرة خلال فترة توليه النيابة العمومية لمدة 5 سنوات وتغاضيه عن آلاف الملفات المتصلة بالإرهاب والتهريب والفساد".

ويرى القمودي أن الحديث عن مكافحة الفساد بعد الثورة وتخصيص قطب قضائي اقتصادي ومالي يتولى هذه المهمة بقي مجرد شعار رفع لطمأنة الرأي العام، بعد أن بقي هذا القطب خاضعا لإشراف ومراقبة وكيل الجمهورية السابق، الأمر الذي جعل هذا الجهاز مكبلا ولم يتقدم قيد أنملة في محاربة ملفات الفساد، وفقا لتعبيره.

ودعا القمودي إلى التعجيل بإصلاح المنظومة القضائية، عبر مراجعة دور المجلس الأعلى للقضاء وتركيبته، ودعم استقلالية القضاة وتحريرهم من التدخلات السياسية، وإعادة النظر في دور القطب القضائي المالي وتمكينه من الآليات البشرية والفنية التي تجعله يشتغل باستقلالية، مع مراجعة آليات البت في ملفات الفساد.

كما اقترح أيضا مراجعة المعايير التي يتم اعتمادها في نقل القضاة أو ترقيتهم، حتى تكون الترقية للأكثر كفاءة وحتى تكون النقل منصفة ولا تستخدم كوسيلة من أجل إبعاد قضاة عن تناول ملفات معينة.

فشل كبير في الانتقال القضائي

وفي تصريح لـ "سبوتنيك"، قال القاضي السابق بالمحكمة الإدارية أحمد صواب "إن تونس نجحت نسبيا بعد الثورة في الانتقال السياسي والمؤسساتي وفشلت في الانتقال الاقتصادي والاجتماعي، و"لكن الفشل الأكبر يعلّق على الانتقال القضائي".

وأضاف "لم يسبق أن تورطت المحكمة الإدارية في السياسة حتى في عهد بن علي، حيث تم إصدار أحكام لصالح النهضويين والجمعيات التي منعت من النشاط ولم يخسر أي منهم قضيته، ولكن الآن أصبحت هذه المحكمة ملغمة بالتدخلات السياسية وتورطت حتى في قضايا فساد وتحيل".

ويرى صواب أن الإشكال الأكبر يكمن قي القضاء العدلي الذي تحوّل إلى فروع تعمل لفائدة رجال الأعمال وأحزاب سياسية مثل حركة النهضة ونداء تونس والتجمع المنحل ورواسب المنظومة السابقة، بعد أن كان يشتغل لفائدة طرف وحيد وهو عائلة بن علي ومقربيه.

حركة النهضة التونسية تعترف بمسؤوليتها الكبيرة في تفاقم الأزمة السياسية
وقال صواب "إن المنظومة القضائية عايشت عدة انتكاسات منذ الثورة إلى اليوم، أخطرها التلاقح الذي حصل بين حركة النهضة وجمعية القضاة والذي أوصل البشير العكرمي إلى منصب وكيل للجمهورية وهي أخطر خطة يمكن لقاضٍ أن يتولاها نظرا لسيطرته على أكبر دائرة ترابية في تونس تحوي مقرات السيادة والثروة الوطنية، فضلا عن تمكينه من اختصاصين وطنيين وهما الإرهاب والنيابة العمومية".

ويرى صواب أن التجاوزات التي ارتكبها كل من وكيل الجمهورية السابق البشير العكرمي والرئيس الأول لمحكمة التعقيب الطيب راشد عصفت باستقلالية القطب القضائي، حيث نسبت إلى الأول قضايا في التوظيف السياسي لمصلحة الإرهاب، واتهم الثاني بالفساد السياسي من خلال خدمته لمصالح رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد والفساد المالي من خلال الإثراء غير المشروع.

وشدد المتحدث على ضرورة تنقية مناخ القضاء في تونس، من خلال اقتلاع جذور الفساد السياسي المحيط بهذا الهيكل الحساس، والقضاء على الفساد المالي من خلال تتبع أرصدة القضاة والبت في مصادرها.

إصلاح تشريعي

بدوره اعتبر القاضي عمر الوسلاتي في حديثه لـ "سبوتنيك" أن تونس لم تصل بعد إلى مرحلة الإصلاح العميق لسلك القضاء رغم أنه يعتبر دعامة أساسية للانتقال الديمقراطي.

وقال إن "كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة قامت بإرجاع إصلاح المنظومة القضائية بشكل قصدي ، لأن إصلاح القضاء لا يتماشى مع مصالح بعض الأطراف السياسية التي تسعى إما إلى الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها".

ووصف الوسلاتي المنظومة القضائية الحالية بأنها سليلة نظام دكتاتوري، قائلا "لا يمكن إنكار وجود قضاة مستقلين ونزهاء، ولكن المنظومة ككل ليست مستقلة وتسمح بالضغط على القضاة وبالمحاباة والتمييز بين المتقاضين وبتدخل الأحزاب النافذة التي تسعى دائما إلى وضع يدها على القضاء حماية لمصالحها.

ويرى الوسلاتي أن الإصلاح يجب أن ينطلق أولا من التشريعات، موضحا "القانون الذي أُنشأ بمقتضاه المجلس الأعلى للقضاء غير دستوري لأنه سقط مرتيْن أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين بسبب احتوائه على العديد من الإخلالات في علاقة بمقوّمات ضمان استقلالية القضاء التي نص عليها دستور 2014".

وأضاف أن الإصلاح الثاني يجب أن يشمل طريقة انتداب القضاة، معتبرا أن القضاء ليس مجالا للتشغيل وأن القاضي ليس مجرد أداة فنية لتطبيق القانون.

 وتابع "العدالة لا تصنعها النصوص وإنما قراءة القاضي لهذه النصوص انطلاقا من الواقع، وبالتالي على القاضي أن يكون صاحب دراية وخبرة وليس مجرد خريج لكليات الحقوق".

مناقشة