طنطاوي نجل صانع طربوش الملك فاروق يتشبث بمهنة الآباء لحمايتها من الانقراض.. صور

بمجرد أن تطأ قدماه حانوته الصغير الذي يفوح من جنباته عبق ماضٍ عريق، يستشعر أحمد نور الدين طنطاوي صانع الطرابيش أن عقارب الزمن قد عادت به عقودًا إلى الوراء، لتتحول جدران ذلك المحل من مجرد حوائط تستر ما بداخله إلى حواجز زمنية تمنع عصر الألفية من الاختلاط بعقود ما قبل ثورة 23 يوليو1952.
Sputnik
فلا يكاد يخرج منه حتى تأخذه اللهفة ليعود إليه مجددًا ليطرح على عتبته أعباء وهموم زمن "صاخب" يعيش فيه على الحقيقة مرغمًا.. انحدر فيه الذوق العام إلى أعماق سحيقة، ليبحث بداخله عن زمن فائت أكثر هدوءًا ورقيا، تمنى أن لو كان من أهله.
طنطاوي الذي يصرّ على استكمال مسيرة والده في مهنة صناعة الطرابيش رغم قلة مردودها المادي، يرى أنها تشبع حالة الحنين للماضي "النوستالجيا" التي تهيمن على عواطفه، وتمثل لها بساطًا سحريًا يقطع به المسافات حتى يضع رحاله على عتبات ذلك "الزمن الجميل" الذي يدرك أنه قد ولى ولن يعود إلا في مُخَيِّلته.
أحمد طنطاوي صانع الطرابيش
يقول طنطاوي الذي يحرص على ارتداء الطربوش أثناء عمله في محله الواقع ببلدة "قليوب البلد" بمحافظة القليوبية شمالي القاهرة، لـ "سبوتنيك" إنَّ أحد أسباب استمراره في هذه المهنة اعتقاده أنها تمثل تراثًا مصريًا ورثه عن والده وينبغي أن يحافظ عليه حتى لا يندثر.

ومن هذا المنطلق يؤكد أنه يحرص على أن يعلِّم نجله خالد هذه المهنة حتى تظل باقية من بعده مثلما كان هو الآخر حارسًا أمينًا عليها بعد وفاة والده، لا سيما وأنه لم يَعُد يحترف هذه المهنة إلا بضعة أشخاص في كل أنحاء مصر.

يوضح طنطاوي أن السبب الرئيسي في تراجع أعداد العاملين في هذه المهنة ووقوفها على حافة الاندثار هو ثورة 23 يوليو 1952 التي ألغت الطربوش كزِيّ رسمي في البلاد، مشيرًا إلى أن طوائف عديدة من المصريين كانت ترتدي الطربوش قبل الثورة.
ويضيف: "كان ممنوعًا أن يذهب الموظف إلى عمله بدون طربوش وكذلك الطالب في الكلية كان ممنوعًا أن يذهب إلى الجامعة بدون الطربوش، ممنوع أن يمشي الناس في الشارع بدونه، الطربوش كان رمزًا في هذه الفترة التي كان نظام الحكم فيها ملكيًا، والملك كان لابس (يرتدي) الطربوش، فمن غير المعقول إن الناس ما تلبسوش (لا ترتديه)".
أحمد طنطاوي صانع الطربوش
وعن مظاهر ازدهار المهنة في هذه الفترة يقول طنطاوي إن والده كان يصنع طربوش حاكم البلاد الملك فارق الأول (حكم مصر من 1936 حتى 1952) شخصيًا وكان يصنع طلبيات من الطربوش للكلية الحربية التي كان يلتزم القائمون عليها وطلبتها بارتدائه.
ولكن بعد قيام ثورة يوليو ألغى قادتها الطربوش كزي رسمي للبلاد، ما أدَّى إلى التخلي عن ارتدائه بشكل واسع حتى تلاشى تمامًا، بحسب طنطاوي.
ويشير إلى أن قرار الثورة بإلغاء الطربوش انعكس على والده الذين كان يمتلك محلين لصناعة الطربوش؛ حيث اضطر للتخلي عن محله في منطقة حلمية الزيتون بالقاهرة، واكتفى بمحله الحالي في قليوب البلد.
وعن الزبائن التي يستهدفها حاليًا، يقول طنطاوي إن ارتداء الطربوش "الأفندي" انحصر حاليًا في المشاركين في الأعمال الفنية سواء كانت مسلسلات تليفزيونية أو أعمالًا مسرحية.
ويوضح أنه يركز حاليًا في صناعة طربوش "العمة" الذي يلبسه "المشايخ"، في إشارة إلى أئمة المساجد والمقرئين الذي يلتزمون بلبس العمامة المكونة من طربوش ملفوف حوله قطعة من القماش الأبيض.
ويتباهى طنطاوي بأن الكثير من مشاهير المقرئين السابقين والحاليين من زبائن محله، موضحًا أن من أبرز هؤلاء المقرئين الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمود علي البنا، والشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ محمود الطبلاوي والشيخ محمود المنشاوي.
1 / 6
طنطاوي نجل صانع طربوش الملك فاروق يتشبث بمهنة الآباء لحمايتها من الانقراض
2 / 6
طنطاوي نجل صانع طربوش الملك فاروق يتشبث بمهنة الآباء لحمايتها من الانقراض
3 / 6
طنطاوي نجل صانع طربوش الملك فاروق يتشبث بمهنة الآباء لحمايتها من الانقراض
4 / 6
طنطاوي نجل صانع طربوش الملك فاروق يتشبث بمهنة الآباء لحمايتها من الانقراض
5 / 6
طنطاوي نجل صانع طربوش الملك فاروق يتشبث بمهنة الآباء لحمايتها من الانقراض
6 / 6
طنطاوي نجل صانع طربوش الملك فاروق يتشبث بمهنة الآباء لحمايتها من الانقراض
لم تكن ثورة يوليو هي العامل الوحيد الذي تضررت بسببه صناعة الطرابيش، بحسب طنطاوي الذي يشير إلى أن المهنة تضررت بعوامل أخرى مؤخرًا وفي مقدمتها وباء كورونا، الذي أدى إلى تراجع إقبال "المشايخ" على شراء الطرابيش.
يقول طنطاوي، إن التدابير الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا تضمنت منع سرادقات العزاء والاحتفالات التي تمثل مجالًا مهمًا لعمل المقرئين، وهو ما أدى بالتالي إلى قلة حاجتهم للطربوش.

عامل سلبي آخر هو الأحدث الذي تعرضت له مهنة صناعة الطرابيش هو خفض سعر الجنيه المصري قبل أيام، الأمر الذي يؤدي إلى رفع أسعار المواد الخام المستعملة في صناعة الطربوش وبالتالي ارتفاع أسعار الطربوش وهو ما ينعكس سلبًا على حركة الشراء، بحسب طنطاوي الذي أكد أنه لم يرفع أسعار بضاعته حتى الآن.

وعن متوسط أسعار الطربوش، يقول طنطاوي الذي يعد واحدا من أبرز صانعي الطربوش في مصر حاليا ضمن مجموعة من محترفي هذه المهنة يتركز أغلبهم في منطقة الأزهر بالقاهرة، إن السعر يتوقف على نوع المواد الخام المستعملة فيه، لافتا إلى أن الأسعار لديه تبدأ من مائة جنيه وتصل حتى 450 جنيهًا.
وردًا على سؤال عمّا إذا كان عمله في صناعة الطربوش يمثل مصدر دخل يكفيه في الإنفاق على أسرته، يؤكد طنطاوي أن "هذا العمل لا يكفي وحده لفتح بيت"، وأنه يعمل في مجال آخر وهو الديكورات والتشطيبات.

فيما يتعلق بطريقة صناعة الطربوش يقول طنطاوي إنها تمر بمراحل عدة تبدأ بأخذ مقاس صاحب الطربوش ثم كَيّ الجوخ- قطعة قماش حمراء - على قالب من النحاس يأخذ شكل الطربوش، وداخل هذه القماشة يوضع الخوص المصنوع من سعف النخيل.

الخطوة التالية هي إعادة كي الجوخ وبدخله الخوص على القالب حتى يلتصقان تماما، ثم يزود ببطانة من الحرير والشريط الداخلي، وينتهي الأمر بتركيب الزر وهو عبارة عن خيوط سوداء تتدلى من أعلى الطربوش.
وتشير بعض التقارير إلى أن لون زر الطربوش كان يشير في السابق إلى مكانة من يرتديه، حيث كان اللون الكحلي يرمز لطبقة الباشاوات والأمراء، في حين يشير اللون الأسود إلى الطبقة التي تليهم وهي الأساتذة والأفندية وأئمة المساجد‏‏، بينما كان يدل اللون اللبني للزر على من يقرأون القرآن في المأتم ويسيرون في مقدمة الجنازات‏.
أما المدة التي يستغرقها في صناعة الطربوش، يقول طنطاوي إن تجهيز الطربوش يستغرق نحو ثلاث ساعات بالنسبة للطربوش الجديد، ولكن الطربوش المستعمل الذي يرغب صاحبه في تجديده فيحتاج لوقت أطول.
ويذكر عاملون في هذه المهنة أن صناعة "الطربوش" دخلت مصر في عهد محمد علي باشا (حكم مصر من 1805 حتى 1848)، وكان ارتداؤه عادة عثمانية، ثم أصبح جزءا أساسيا في زي الموظفين العاملين في دواوين الحكومة، ويعاقب من لا يلتزم بارتدائه.
وظل ارتداء "الطربوش" أحد العلامات المعروفة التي تشير إلى وقار صاحبه ومكانته الاجتماعية في مصر، حتى قيام ثورة يوليو 1952.
مناقشة