مع رفع البنوك المركزية للفائدة... كيف يشكل الدين العالمي كرة ثلج تهدد الدول؟

بعد بلوغه مستويات قياسية غير مسبوقة، أصبح الدين العالمي مصدر قلق لصناع القرار وقادة القطاع المالي، والآن، تدور مناقشات في منتدى دافوس الاقتصادي حول الأزمات المستقبلية التي يمكن أن تشكلها الديون.
Sputnik
وخلال جلسة نقاشية يوم الأربعاء في المنتدى الاقتصادي العالمي، قدرت المسؤولة الثانية في صندوق النقد الدولي جيتا غوبينات حجم الدين العام بنحو 120% من الناتج المحلي للبلدان المتقدمة، مضيفة أنه "ارتفع بشكل ملحوظ" أيضا في الأسواق الناشئة والدول النامية.
هذا يعني أن إجمالي حجم ديون هذه الدول المتقدمة يتجاوز حجم اقتصاداتها مجتمعة بنحو 20%. نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي هي مقياس بسيط يقارن الدين العام لبلد ما بإنتاجه الاقتصادي.
من خلال مقارنة المبلغ المستحق على بلد ما ومقدار الإنتاج في السنة، يمكن للاقتصاديين قياس القدرة النظرية لبلد ما على سداد ديونه. نشر البنك الدولي دراسة تظهر أن البلدان التي تحافظ على هذه النسبة فوق 77% لفترات طويلة من الزمن عانت من تباطؤ اقتصادي.
المسؤولة في واحدة من أهم المؤسسات المالية العالمية والأكثر تأثيرا في سياسات الحكومات جيتا غوبينات، حذرت من أن "أكثر من نصف الدول ذات الدخل المحدود تمر بضائقة اقتصادية أو على وشك الوقوع فيها"، بحسب ما نقلته "فرانس برس".
وأردفت أنه يمكن للعالم حتما أن يشهد تفاقما لهذه الحالات، مستبعدة في الوقت ذاته حصول "أزمة دين" على صعيد عالمي حاليا، بعد شهر ونصف شهر من تخلف سريلانكا عن سداد ديونها.

لماذا القلق؟

عادة ما ينظر إلى الديون كإحدى الأدوات التي يمكن من خلالها تخطي أزمة ما، لكن تراكمها بمرور الزمن قد يصبح أزمة أكبر، ونظرا لتشابك الاقتصادات والأنظمة المالية، فإن الانهيار في مكان ما قد يتبعه انهيارات متتالية في أماكن أخرى.
تفاقمت الديون العامة بالفعل مع آخر أزمتين عالميتين جسيمتين؛ الأزمة المالية وبسبب الرهون العقارية الأمريكية بين عامي 2007 و2008، ثم تفشي فيروس كورونا الذي دفع الحكومات حول العالم إلى مزيد من الإنفاق.
ارتفاع حجم الدين يتبعه بطبيعة الحال ارتفاع في تكاليف خدمته (الفوائد المدفوعة عنه)، والأمر يصبح أكثر تعقيدا مع زيادة معدلات الفائدة من قبل البنوك المركزية حاليا بهدف مواجهة التضخم.
انكماش الاقتصاد الأمريكي بمعدل أسوأ من المتوقع
يرجع خوف الخبراء الأساسي إلى أنه عند مرحلة ما قد لا تكفي عائدات بلد ما لسداد الالتزامات المالية، سواء تكاليف خدمة الدين أو حتى أصل الدين عند تاريخ استحقاقه، والسيناريو الأسوأ هو حدوث عدوى مالية، بمعنى أن فشل دولة أو كيان ما في سداد ديونه قد يعني إفلاس الجهات المقرضة أيضا، ومن هناك قد يبدأ "تأثير الدومينو".
من جهته، وصف دايفد روبنشتاينن الملياردير الأمريكي ومؤسس صندوق "كارليل" للاستثمارات، خلال طاولة مستديرة في دافوس عن مخاطر الركود وارتفاع أسعار المواد الغذائية، أزمة الديون بأنها "المشكلة الاقتصادية الأهم من بين كل المسائل المطروحة".
والأمر لا يطال الديون الحكومية فقط، فبحسب معهد التمويل الدولي، بلغت الديون العامة والخاصة والتابعة للشركات والأسر في الثلث الأول، ذروتها عند مستوى قياسي بلغ 305 آلاف مليار دولار (أكثر من 3 تريليونات دولار).

ماذا يعني رفع الفائدة؟

في الوقت الراهن، ومع مواجهة معدلات التضخم المفرطة، بدأت المصارف المركزية حول العالم رفع نسب الفائدة بعد سنوات من الانخفاض الذي دعم شهية الحكومات للاستدانة، وهذا التوجه الحالي يزيد تكلفة الاقتراض على البلدان التي تحاول مواصلة الإنفاق لدعم اقتصاداتها، وكذلك بالنسبة للشركات.
قال فرنسوا فيلروي دو غالو حاكم المصرف المركزي الفرنسي، في دافوس الاثنين إنه "بات للدين ثمن"، بعد أن كان الاقتراض حتى زمن قريب جدا لا يكلف شيئا تقريبا.
وتابع دو غالو إنه تغير جذري، موضحا أن كل زيادة في الاقتراض بمعدل نقطة مئوية واحدة (1%) لمدى عشر سنوات يمكن أن تكلف حكومة بلاده وحدها 40 مليار يورو إضافية.
فيما قالت جيتا غوبينات إن المقرض الدولي الذي يخشى أن يؤدي التسارع المحتمل في التضخم إلى ارتفاع مفاجئ في أسعار الفائدة، بات يراقب القارة الأوروبية عن كثب بعد أزمة ديون منطقة اليورو عام 2010.
مع ذلك، تبدو الاقتصادات الناشئة التي تتأثر تقليديا بارتفاع معدلات الفائدة، هذه المرة أقل تعرضا لمخاطر التخلّف عن سداد ديونها. ويسلط خبراء عدة الضوء على تراجع مديونية هذه الدول بالعملات الأجنبية وزيادة احتياطاتها من النقد الأجنبي.
لكن مخاطر التخلف عن السداد أكبر بكثير بالنسبة للدول الأكثر هشاشة، بحسب ما قاله باتريك خوليكاني مدير "بنك تنمية أفريقيا الجنوبية" في دافوس الأربعاء، معلقا بـ"نحن قلقون للغاية من أن يحصل ذلك" ومسلطا الضوء على حجم ديون الأسر والشركات و"الارتفاع المدمر" لأسعار المواد الغذائية.
زيمبابوي تسجل معدل تضخم يتجاوز 130%
لمساعدة البلدان الأكثر هشاشة يحاول المجتمع الدولي منذ أشهر تفعيل "حقوق السحب الخاصة" وهي أصل احتياطي استحدثه صندوق النقد الدولي من شأنه تخفيف الأعباء عن هذه الدول بالتزامن مع عرض تعليق تسديد ديونها.
في النهاية لا يمكن القول إن انهيارا ماليا عالميا أصبح وشيكا بسبب تفاقم حجم الدين العالمي، لكن هذا الإفراط ينذر بخطر شديد القسوة إذا ما حدث السيناريو الأسوأ ولم تتمكن دولة في واحدة من المناطق الأكثر استقرار على الوفاء بالتزاماتها.
والتاريخ مليئ بالعبر على التخلف عن سداد الديون الذي تزامن مع أزمات حادة ليتحول في النهاية إلى عدوى واسعة الانتشار، ولعل الأزمة المالية الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي كانت أحد هذه الأمثلة، عندما فشلت تايلاند في الوفاء بديونها بالعملات الأجنبية وانهارت عملتها المحلية واضطرت إلى الإفلاس قبل أن تنتقل الأزمة إلى الكثير من دول القارة.
سيناريو كهذا كان مؤلما لبلدان المنطقة، وأثر تأثيرا بالغا على الاقتصاد العالمي، لكن حتى الآن لا يزال تخيل حدث مماثل كهذا على نطاق عالمي صعب بعض الشيء، نظرا لأن الدول المتقدمة تتحكم بشكل كبير في العملات الرئيسية للديون مثل الدولار واليورو والإسترليني، ونظريا يمكنها تفادي التخلف عن السداد.
مع ذلك، فإن هذه الدول ليست بمنأى عن الخطر تماما، ولعل الأزمة المالية العالمية في 2008 كانت خير مثال على معاناة المصارف الأمريكية وانهيارها بسبب ديونها العقارية غير الصحية، والتي انتقلت عدواها إلى المصارف في مناطق أخرى. أيضا أزمة ديون منطقة اليورو خير مثال على المشاكل ممتدة الأجل بسبب الديون، والتي تسببت في تخلف الحكومات عن السداد واضطراب العديد من بلدان المنطقة وانهيار مصارفها.
مناقشة