دكان "نخلة"... حجارة تؤرخ 140 عاما من الحياة التجارية في اللاذقية

بخطا رشيقة وهمّة عالية، يسابق العم ميشيل حنا، الرجل السبعيني، ساعات الصباح الأولى، وهو يتلمّس بيده الممرات الضيقة العتيقة للسوق "المقبي"، وكأنه يراها لأول مرة، فيما عيونه تتفقد القناطر المعتقة وحجارة الأزقة الضيقة وكأنه غاب عنها سنينا طويلة.
Sputnik
في موعده الصباحي اليومي، يصل العم حنا إلى محله في السوق "المقبي" أو كما يطلق عليه العامة اسم "سوق البازار" بمدينة اللاذقية. يفتح الباب الخشبي للدكان العتيق، على مهل وينفض الغبار عن محتوياته، ويتنقل بين زوايا الدكان بخفة، ثم يسحب بكل هدوء الكرسي الخشبي إلى الخارج ويجلس عليه ليشرب قهوته الصباحية أمام دكانه الذي توارثه عن أجداده.
دكان (نخالة).. حجارة تؤرخ 140 عاماً من الحياة التجارية في اللاذقية
و"السوق المقبي" بأبوابه الخمسة، أحد أقدم أسواق اللاذقية، ومركز ثقلها التجاري، وهو مصنف ضمن المدينة القديمة المصنفة بدورها ضمن لوائح التراث العالمي المدرجة على لوائح (يونسكو).
يكفي أن تقرأ اللافتة الموجودة على واجهة المحل "محلات نخلة... تأسست عام1881"، حتى تدرك السحر الذي يستقطب المارة من لحظة دخولهم السوق، ليقفوا طويلاً أمامه وكأنهم أمام حقبة من التاريخ.. كل ما في دكان العم حنا يحكي قصة سنين طويلة.. من بابه الخشبي العتيق إلى سقفه وجدرانه، التي لا زالت تردد صدى حكايات وضحكات من تعاقبوا عليه.
لم يغيره الزمن ولم تفسد "العصرنة" وفنون الديكور الحديثة، اللمسات الشرقية القديمة التي تركت بصماتها على كل زاوية من زوايا الدكان، الذي ظل محافظاً على قدمه وكأنه شاهد على التاريخ. لم يتغير في المكان سوى البضاعة التي تباع داخل الدكان، والتي تبدلت بفعل متطلبات السوق واحتياجات السكان.
دكان (نخالة).. حجارة تؤرخ 140 عاماً من الحياة التجارية في اللاذقية
جلس على كرسيه الخشبي كالمعتاد، وبعد لحظات من الصمت التي كسرتها ضحكة عفوية، قال العم ميشيل حنا لوكالة "سبوتنيك":

"لا أعرف من أين أبدأ، فقصة هذا الدكان طويلة بعدد سنوات تأسيسها، بالرغم من أنني لم أكن خلقت بعد عندما تأسس هذا الدكان الذي بات عمره 140 عاماً ويعود لجد جدي، إلا أنني أحفظ الكثير عنه مما سمعته من جدي ووالدي".

وأضاف: "عندما تأسس الدكان كان مخصصاً لبيع أنواع مختلفة من الأقمشة، خاصة أن سوريا كانت تشتهر بجودة الأقمشة ونقوشها والخيوط الفريدة الداخلة في صناعتها. وحسب ما كان يروي لي جدي، فإنه كان يوجد إلى جانب السوق المقبي، اسطبل يضع فيه التجار الذين كانوا يأتون إلى السوق، أحصنتهم وحميرهم داخله، حتى ينتهوا من شراء بضائعهم التي كانت جميعها من السوق".
وتابع حنا: "بعد أن انتقل العمل في الدكان إلى والد جدي، قام بإضافة بيع "العكالات" و"الجلابيات" إلى جانب الأقمشة، وفي عام 1925 طوّر العمل وأصبح يبيع أيضاً المربيات الانجليزية ومستلزمات الصيد".
دكان (نخالة).. حجارة تؤرخ 140 عاماً من الحياة التجارية في اللاذقية
وحسب حنا، عندما استلم جده ووالده بعد ذلك الدكان، تم تحويله إلى بيع القطن والصوف ومادة "الخيش" المستخدمة في عزل الأسطح، مشيراً إلى انه في السابق كانوا يمزجون بين الخيش والزفت ويستخدمون الخليط في عزل الأسطح لمنع تسرب المياه، ويضيف: في الستينيات والسبعينيات كانت السوق تشهد رواجاً كبيرا وحركة نشطة، حيث كانت "البوسطة"، وهي كراج لباصات النقل الصغيرة القديمة، بالقرب من السوق، لكن بعد انتقال "البوسطة" إلى مكان بعيد عن السوق، باتت الحركة قليلة.
واستطرد حنا: بعد تطور الصناعات ودخول فرشات "سليب كومفورت"، والأدوات الحديثة في العزل، اندثرت صناعة الصوف، والخيش، ما جعلني بعد وفاة والدي أجاري السوق واحتياجاته، وعليه حوّلت الدكان لبيع الأحذية، ومن ثم إلى بيع الأدوات المنزلية التي لا تزال حتى الآن، باعتبارها الأكثر رواجاً حالياً.
"كان الخير مليان بالسوق"، بهذه الجملة يغص العم حنا وهو يستذكر، السنين الخوالي، كيف كان يأتي التجار اللبنانيون إلى السوق المقبي ويشتروا بضائعهم من مختلف الأنواع والاصناف كالأقمشة والأحذية والتحف الشرقية والعكالات والجلابيات، ليبيعوها في لبنان.
دكان (شجرة العائلة)
ورغم أن العم حنا درس الحقوق في لبنان، إلا أنه توارث الدكان الذي يعد إرث العائلة، ويضيف بابتسامة تمتزج بغصة ذكريات طويلة تستحضر عشرات الحكايات والمواقف التي تتزاحم في مخيلته: كأن هذا الدكان دم يسري في عروقنا، فكيف لنا أن نغلقه أو نفرّط فيه وهو الذي ورثناه جدا عن جد.

وأضاف: "هل ببيع أحد شجرة عائلته، وتاريخه؟! سأورثه لأولادي كما ورثته عن أبي، وسيبقى تاريخاً يحكي قصة عائلة من بين عشرات القصص المشابهة التي لا تزال تعيش بين حنايا السوق المقبي أقدم أسواق اللاذقية ومركز ثقلها التجاري بالنسبة للباعة والمستهلكين".

دكان (نخالة).. حجارة تؤرخ 140 عاماً من الحياة التجارية في اللاذقية
وأشار العم حنا إلى أن المهن التي اشتهر بها السوق المقبي خلال السبعينيات والثمانينيات، هي البسط والصوف، صناعة الصابون، صنع الطرابيش وكيّها التي اندثرت بمرور الزمن، تعبئة القطن وتصديره خاصة أن مزارعين في قرى ريف اللاذقية كان يزرعون القطن، صناعة "المحازم" و"القشط" لمعامل التبغ، بالإضافة لانتشار محال بيع الحبوب بأنواعها، الأقمشة، الخردة.
وفي مقارنة سريعة بين الماضي والحاضر، يقول العم حنا: فرق كبير بين أيام زمان واليوم. الحياة في الماضي كانت أجمل، وكانت كلمة التاجر أهم من الوثيقة وسند الأمانة.
مناقشة