الطريق إلى "أذكور".. زلزال المغرب يغير معالم الحجر والبشر.. (الحلقة الثالثة)

عبر طرق ومدقات جبلية غير مؤهلة، انهار بعضها إثر الزلزال، وبعد أن استغرقنا ساعتين و34 دقيقة، وصلنا إلى "دوار إنرني"، التابع لجماعة "أذكور" في المغرب، وهي ضمن المناطق التي تأثرت بدرجة كبيرة من الزلزال الذي ضرب البلد في التاسع من سبتمبر/ أيلول 2023.
Sputnik
نحو 120 منزلا لم يبق منها سوى بضع منازل انهارت بعض جدرانها وظلت الأخرى تأبى الانحناء، ربما صونا لود سكانها الذين منحهم القدر فرصة للنجاة.
يبدو الدوار من بعيد كصخرة تحطمت وتفتت إلى أجزاء متباينة الأحجام، غير أن بعض أبواب المنازل وملابس الأطفال هنا تشير إلى أن منازلَ كانت هنا ذات يوم.
المغرب… رئيس الحكومة يترأس اجتماع لجنة إعادة إعمار المناطق المتضررة من الزلزال
في مقدمة الدوار يلعب الناجون من الأطفال، غير عابئين بما جرى، ربما لم يدركوا بعد ما حل بهم، ولم ينتبهوا للمستقبل الذي ينتظرهم بعد أن فارقهم أهلهم دون سابق إنذار.
لقراءة الحلقة الأولى... الطريق إلى بؤرة "زلزال المغرب"... رائحة الموت تحت أشجار الجوز، اضغط هنا.
إلى أسفل ركام المنازل وتحت أشجار الجوز يقيم أهل الدوار، من بينهم مليكة خونش البالغة من العمر 40 عاما، التي نجت لتواجه ما تبقى من العمر تتذكر لحظات فراق شقيقها الذي كان يكبرها بنحو 5 سنوات، ويعولها.
تقول مليكة إن شقيقها المتوفى، عبد اللطيف خونش، كان يخطط لليوم الذي لم يكن يعرف أنه الأخير في حياته وحياة وطنه، كما عرفه أهله.
كان عبد اللطيف، دباغ الجلود، ينوي السفر مساء يوم الكارثة إلى مدينة مراكش للالتحاق بعمله، لكنه بدلاً من ذلك شيّع إلى قبره ليقيم به حتى يوم النشور، تاركا مليكة أسيرة خيمة صغيرة وأفكارا تتصارع في رأسها عما سيجيئ به الغد، وهي الوحيدة لا تملك غير ذكريات من رحلوا.
مجتمع
ظهور حفرة مخيفة بعمق 60 مترا بشكل مفاجئ بعد زلزال المغرب... فيديو
بين من نجوا هنا عشرات الأشخاص والأطفال وبعض الماشية والطيور، تجلس الطفلة نعمة، البالغة من العمر ثلاثة أعوام، مرتدية قميصا أسود بلون الحزن الذي لم تدركه بعد، كما لم تدرك ما حدث حولها، لكنها تواصل النداء على والدتها التي لا تجيب ولم ترَها منذ 5 أيام، ولن تراها بعد.
أما شقيقتها ياسمين، البالغة من العمر 11 عاما، التي تجلس إلى جوارها فهي تدرك كل شيء، حزن العالم في عينيها، كما لو كانت امرأة ذاقت من الألم سنوات حتى ابيضّ شعرها حزنا.

تحت أشجار اللوز

وسط خيمة وأدوات طهي، يجلس العشرات من الناجين مع من تبقى من طيورهم التي تدور حولهم في المكان، وماشيتهم الناجية، أسفل أشجار اللوز التي تظلل المكان، ويستظل بها أيضا ما نجا من الماشية.
تقضي الطفلة الصغيرة الوقت في اللعب بين الأطفال تارة والبكاء تارة أخرى، إذ لا تجيبها والدتها التي رحلت، وبينما تحاول ياسمين طمأنة شقيقتها الصغرى، فإنها تنهار في البكاء معها حزنا على أسرتها.

طفلة وأم وأب

لم تظن ياسمين ذات يوم أنها ستصبح أما وأبا وشقيقة كبرى وهي في سن الحادية عشر، لكن ما وقع في التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري، قلب الحياة رأسا على عقب وغيّر وبدل ملامح الأماكن والبشر في إقليم الحوز وأكادير ومناطق أخرى في المملكة المغربية.
تحمل ياسمين شقيقتها الصغرى صعودا وهبوطا، على حطام منزلهم، حيث تتناثر ملابسهم وكتبهم وكل حاجاتهم بين ركامه، وكأنها تنتظر أن يجيبها والدها أو والدتها في أي لحظة.
"ريان ما زال حيا"... توفيت أسرته وأصدقاؤه وأنقذه الأهالي من" تحت الأنقاض" في جهة مراكش
تتحدث ياسمين بصوت أجهده النداء على والديها دون إجابة، ولسان أثقله الألم، وفي عينيها حسرة وانكسار لا يفارقان النظر للأرض والمنزل.
تسرد ياسمين لـ"سبوتنيك" تفاصيل ما وقع مساء الجمعة في ليلة حزينة، بلهجتها الأمازيغية التي نصيغها بالعربية: " كنا نجلس أنا وشقيقتي على مسافة داخل المنزل، بينما كانت والدتي ممددة على الأريكة، وكان والدي يتناول "دواء التفاح"، وفجأة اهتز المنزل وأدركنا أنه الزلزال، فأخرج والدي شقيقتي الصغيرة نعمة في ثوان لخارج المنزل، وعاد وحملني إلى الخارج بعد أن عجزت على الهرب من شدة الخوف".
يمنعها البكاء من استكمال حديثها، يغيب صوتها وتمد يدها لتمسح دموعها التي تشبه السيل الذي يرافق العاصفة، ومن ثم تستعيد قواها لتكمل: "في الوقت الذي أخرجني والدي للشارع سقطت بعض الأجزاء من سقف المنزل على رأس والدتي التي كانت تحاول الهرب، لكن والدي قرر الدخول لإنقاذها، وبمجرد أن دخل من الباب سقط المنزل بالكامل فوق رأسه إلى جوار والدتي وتوفيا معا، فيما توفت جدتي في منزلها بعد سقوطه عليها".
لقراءة الحلقة الثانية... "في انتظار الموتى"... هنا كانت مدينة تسمى "ثلاث نيعقوب" بالمغرب، اضغط هنا.
على بعد خطوات، كان يقف إلى جوار شجرة الجوز يحيى آيت همو، يتفقد تراب الأرض، وكأنه يلومه، لما لم يصن العهد والود، وانهار فوق سكانه الذين شيد أجدادهم هذه المنازل من طمي جبال الأطلس وحجارتها قبل عقود.
المغرب يقرر إنشاء وكالة لإعادة بناء وتأهيل المناطق المتضررة من "زلزال الحوز"
شارك الرجل الأربعيني في عمليات الإنقاذ منذ لحظة وقوع الزلزال حتى السادسة صباحا، ويقول :" منذ اللحظة الأولى التي وقع فيها الزلزال هم الجميع من أهل الدوار الذين قدرت لهم النجاة في إنقاذ الضحايا من تحت الأنقاض، سارع كل شخص في المقام الأول في إنقاذ أهله وجيرانه، ومن انتهى من إنقاذ الأهل انضم للآخرين في ظلام دامس بعد انقطاع التيار الكهربائي.
يعاود الحديث بأن "العشرات انتشلوا لكنهم فارقوا الحياة تحت الأنقاض أو بعد انتشالهم بدقائق، إذ امتدت عمليات الإنقاذ لنحو 13 ساعة، قام بها أهالي الدوار قبل أن تصلهم أي قوات إنقاذ، ومن ضمن مَن أنقذهم الأهالي، أخبرنا "يحي" نبأ الطفلة "وصال" التي انتشلها الأهالي بعد مرور ثلاثة عشر ساعة، بعدما وجدوها تحت السرير، أو "القصب" فى اللهجة المغربية الدارجة.
وعلى ذكر الأطفال الضحايا، يتذكر "يحي" عدد الأطفال، السبعة، الذين فارقوا الحياة، من بينهم أشقاء وأبناء عمومة، جاورت جثامينهم بعضهما بعضا تحت الأنقاض.
فمن بين الأطفال "الذين انتقاهم القدر ليعمّروا جنان الله العُلى كمال آيت همو مع والديه، رضوان أذكور، عبد المجيد جلولات، جلولات ذكريا، ريان جلولات، أدان خونس، رضاء خونس".
محمد حميدة
مناقشة